الأحوال الشخصية العراقي: نكوص الزمن!
رشيد الخيون
أعاد وزير العدل حسن الشمري الأجواء إلى مادار في مجلس الحكم (2003) من خلاف على ما تبقى من قانون الأحوال الشخصية (188 لعام 1959)؛ فقد أخذت سلطات ما بعد «رمضان 1963» بقضم مواده. حذف والمجلس برئاسة عبد العزيز الحكيم (ت 2009)، بدعم مِن الأحزاب الدينية، ثم تثبيته والمجلس برئاسة عدنان الباچه چي بدعم مِن الأحزاب الكردية وبقية المدنيين. وعندما تحضر عبارة «الأحوال الشخصية» يذهب الذهن إلى النساء. فالأوساط الدينية الحزبية ترى في تطبيق الشريعة فيهنَّ اطمئناناً، مع أن هناك ما لم تلتزمه هذه الأحزاب من الشريعة، وتتجاوزه بحيِّل «شرعية».
فاجأتنا وزارة العدل (23 -10- 2013) بطرح مسودتي قانون «الأحوال الشخصية» الجعفري، وقانون «القضاء الجعفري». لحظتها قدّم الوزير لهما بما يُنبئك أنه المصلح. فاعتبر التسعين عاماً من عمر الدولة: «تدار طائفياً، وأن العنف رافق الدولة طائفياً…» (الفضائيات 23 أكتوبر). هذا الادعاء يرد عليه كبار القضاة والمشرعين الشيعة في الدولة العراقية، وبينهم أحمد الحبوبي وزير العدل الأسبق، وقاضي القضاة اليوم مدحت المحمود، رئيس مجلس الشورى وعضو محكمة التمييز في العهد السابق.
قال وزير العدل: إن هذا القانون أُخذ من رسائل الفقهاء! مع علمنا أن تلك الرسائل فيها اجتهاد وبالتالي اختلاف، وكل عالم تقليد يلزم مقلديه، وأنها تناسلت من بعضها بعضاً، تتداول منذ قرون عديدة، وفيها ما أكل عليه الدهر وشرب، خصوصاً في أحوال النساء. فلا يمكن السكوت الآن عن الزواج بعمر التسع للبنت، أو عدم وراثة الزوجة للعقار مثلا!
فما تتفق عليه رسائل الفقهاء كافة جواز العقد على الرضيعة، فالنص لا يقبل التأويل: «لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين» (رسائل الأولين والمتأخرين)، فهل من المعقول أن بلداً تُذَكّر ديباجة دستوره بألوف السنين من الحضارة أن يصار إلى مثل هذه القوانين؟ وهناك ما لم نذكره، في هذه الفقرة، وهو ما يتعارض تعارضاً تاماً مع المدنية بل والطُّفولة، كنا كتبناه في «بعد إذن الفقيه»، فصل: «عرائس الموت»!
كان وزير العدل، حسب بطاقته الشخصية، مولوداً (1971) ومتخرجاً مِن القانون والسِّياسة (1992)، وعلى الهامش لديه دراسة دينية في حوزة الصَّدر (اغتيل 1999)، نراه شخصياً بحاجة إلى خبرة العدل، فكيف يتوزر الوزارة الخطرة ولم يمارس القضاء؟ لكن العذرَ أنها وزارة المحاصصة لا تعنيها الخبرة، لذا من حقه عدم إطلاعه على تاريخ العدل العراقي، ووجود التشريع الجعفري قبل ولادته بنحو خمسين عاماً.
ففي عام 1923 تشكلت المحاكم الجعفرية، وأسس مجلس تمييز شرعي جعفري (العاني، أحكام الأحوال الشخصية في العراق)، وترأسه العلامة المتنور هبة الدين الشهرستاني (ت 1967)، ثم الشيخ علي الشرقي (ت 1964). وبأثره شُرعت المادة (77) من القانون الأساسي العراقي 1925: «يجري القضاء في المحاكم الشرعية وفقاً للأحكام الشرعية الخاصة بكل مذهب من المذاهب الإسلامية، بموجب أحكام قانون خاص، ويكون قاضي من مذهب أكثرية السكان في المحل الذي يعين له، مع بقاء القاضيين السُنَّيين والجعفريَين في مدينتي بغداد والبصرة» (القانون الأساسي).
ما يخص القانون المدني، الموحد للعراقيين، جرت محاولة (1933) «لإصدار قانون الأحوال الشخصية، قام بها التدوين القانوني، ووضعت لائحة لهذا المشروع، غير أنها تعثرت» (خروفة، شرح قانون الأحوال الشخصية). ثم أصدرت (1945) «وزارة العدل أمراً بتشكيل لجنة من أربعة أعضاء عهدت إليها وضع لائحة قانون الأحوال الشخصية، وأنجزت هذا المشروع». إلا أن اللجنة لم تتمكن من تجاوز المادة (77) من القانون الأساسي (1925). لذا «أخذت الفقه الإسلامي أساساً لمشروعها كوحدتين أساسيتين، هما المذهب السُنِّي والمذهب الجعفري، فدونت ما أمكن الاتفاق عليه، ولم يُقدر لهذا المشروع أن يصبح قانوناً» (نفسه).
بعد 14 تموز 1958 ألّفت وزارة العدل لجنة لوضع لائحة. استمدت مبادئها مما هو متفق عليه من الأحكام الشرعية، وما استقر عليه القضاء الشرعي (نفسه). وبعد إكمال عملها أُعلن القانون (19 -12- 1959) متضمناً ثلاثة أمور للنساء تجاري العصر: تحديد سن الزَّواج بـ 18 عاماً للجنسين، وترك مجال للقاضي يحدد البلوغ بين 15 و16 عاماً. منع تعدد الزَّوجات إلا بظرف يقرره القاضي. المساواة بالإرث. على أنها وصية حسب رأي رئيس مجلس السيادة محمد نجيب الربيعي (ت 1983)، وكذلك اعتماداً على ما يخص ميراث الأراضي الأميرية، حسب وضع القانوني عبد الرزاق السنهوري (ت 1971) لتطبق على المواريث كلِّها (الشَّواف، عبد الكريم قاسم وعراقيون آخرون).
ظل القانون مثار اعتراض من قبل علماء الدين، الشيعة والسنة، خصوصاً المساواة في الإرث، وهو تشريع سبق الإسلام بوجوده، دعا إليه ذو المجاسد عامر بن جشم، و«كانت العرب مصفقة على توريث البنين دون البنات»، فخالفهم ذو المجاسد بـ «للذكر مثل حظ الأنثيين» (ابن حبيب، المحبر). واختلفت المذاهب عندما يكون للوريث بنتٌ بمفردها، فاعتبرها الإمامية تحجب الأقارب، وترث النصف والنصف الآخر يُرد عليها (كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأُصولها). واختلفوا في وراثة العقار، فعند الإمامية الزوجة لا ترثه، وعند الآخرين ترثه، ويفهم من هذا أن هناك تبدّلاً في الأحكام بتفسير وتأويل. فقد جاء قانون الأحوال الشخصية ليوحد أحوال العراقيين، ويبقى الافتراق في العبادات، أما المعاملات فيصعب تطبيق الرَّسائل الفقهية فيها.
على أية حال، قضت المادة (14) من الدستور الحالي بالمساواة بين المواطنين: «دون التَّمييز بسبب الجنس». بينما تأتي المادة (39) لتلغي قانون المساواة نهائياً، وذلك بعودة المواطنين إلى مذاهبهم، وتجعل الفوضى في تطبيق الشريعة بالنساء على أساس المذهب! وكأن الزمن عاد منكوساً إلى (1925).
تتقدم دول العالم، أو تحافظ على ما لديها، بقوانينها في الأحوال الشخصية، بينما العراق يهرول إلى الخلف، وواحد من أسباب سقوط «الإخوان» بمصر هو قضية النِّساء، فاللافتة التي حملتها امرأة محجبة تقول: «يا مرشد الجماعة أنا مش بضاعة»! عند الجواهري (ت 1997) ما يُعبر به عمَّا يجري لتطبيق الشريعة، يوم مُنعت مدرسة للبنات، وحينها حشدوا النُّصوص لتحريمها ثم حللوها: «مشت كلُّ جارات العِراق طموحةً/ سراعاً وقامت دونه العَقبات» (الرَّجعيون 1929).
أحاذر أن يجاز هذا القانون، وأحاذر مِن وزراء لا ينظرون إلى أبعد من أرانب أنوفهم! ونعود إلى الجواهري في أمرهم: «ومِن عجبٍ أنَّ الذين تكفَّلوا/ بإنقاذ أهليه هم العثرات».
* نشر في جريدة الاتحاد و في موقع الاوان – بقلم رشيد الخيون ، الصورة من اختيار موقع المبادرة